صخر الدهور
Written by adminrajalalam on December 23, 2023
إنّ عالَمنا اليوم في حالة من الفوضى والاضطراب، إذ كثرت الوجوه المتجهّمة الحائرة التي تبحث عمّن يخفّف آلامها ويهدّئ من روعها. ولا يوجد ما يمكن أن يُقَدّم إليها كرسالة المسيح الغالبة، وحياة الإيمان المؤسَسة على شخصهِ المبارك. والامتياز العظيم أن يكونَ أتباع المسيح هم من يحملون رسالته ويبلّغون ذلك الحقّ. فيكونون كالملح المؤثّر يُضفون طعمًا خاصًا إلى مجتمعاتهم المضّطربةِ المتألّمة، لا بالكلمة الَمَقولة فحسب، بل في الحياة المُعاشة وفي الطّاعة التّامة لتعاليم المسيح ووصاياه. فإن كانت “الكلمة المَقولة” نفيسة ومؤثّرة، فكم تكون “الحياة المُعاشة” نفيسة وأكثر تأثيرًا! والمسيح في وعظِهِ وتعليمهِ شدّد على التّطبيق العمليّ للحقّ وليس إعلانه فقط. فأراد من أتباعه أن يكونوا عاملين بالكلمة لا سامعين لها فحسب، وكأنّه بذلك يقولُ لهم: “كفاكم تديّن خارجيّ”.
كان المسيح يَنشد تحوّلًا صادقًا وجذريًّا في حياة أتباعه، فبينما انشغل رجال الدين آنذاك في مماحكات ومباحثات لاهوتيّة نظريّة؛ شدّد الرّبّ يسوع على السّلوك كذروة التّعليم. وما مِن أحد استمع إلى الموعظة على الجبل إلاّ وعرف كيفيّة التّجاوب عمليًا مع ما سمعه. ونحن اليوم نحتاج إلى العودة إلى نَهج الرّبّ وفي تطبيق رسالته وحقّه عمليًّا. لا نكتفي باستعراض الحقّ الكتابيّ أمام الناس، بل نأخذه إلى حياتنا ونعيش به ليكون مثالًا حيًّا عن عمل المسيح المغيّر في حياة أتباعه. فتعاليم المسيح ووصاياه تدعونا إلى تحوّل جذريّ أولًا في أسلوب تفكيرنا ومن ثَم في نمط سلوكنا، وهكذا يستطيع الناس أن يروا نور يسوع في حياتنا فيمجّدوا أبانا الذي في السّموات. إنّ الجاذبيّة الموجودة في حياة وسلوك الذين يسكن المسيح فيهم، تتكلّم بصوت أعلى من الكلام المُقنع.
ولكي تظلّ حياة المؤمن شهادة لامعة ومؤثّرة، عليه أن يرى واقعَه بشكل دائم في مرآة الكتاب المقدّس. التي تُشبه المرآة التي ننظر إليها كلّ يوم، لنرى إن كان ثمّة أمور في مظهرنا تحتاج إلى تصحيح. والمرآة صادقة، إذ تُرينا حقيقتنا دون مواربة. هكذا كلمة الله؛ ترينا حقيقتنا دون مواربة لنتجاوب معها ونتواضع، مجتهدين أن نصحّح ما يحتاج إلى تصحيح، وإلاّ ما الفائدة التي نجنيها من قراءة الوصيّة؟ كتب الرسول يعقوب في رسالته:”وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ.. وَلكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعًا نَاسِيًا بَلْ عَامِلاً بِالْكَلِمَةِ، فَهذَا يَكُونُ مَغْبُوطًا فِي عَمَلِهِ”.
نحتاج كأتباع للمسيح أن نترجم الإنجيل إلى عمل؛ وأن نجسّده في حياتنا. فلا نقترب من الكتاب المقدّس من دون أن نسمح له بأن يغيّرنا ويهذّبنا وينقّينا. فالادّعاء بأن محبّتنا لكلمة الله عظيمة، أو حتّى التّظاهر بأننا تلاميذ للكتاب المقدّس، هو شكل من الخداع الذّاتي ما لم تعمل معرفتنا المتزايدة على جعلنا أكثر شبهًا بالرّبّ يسوع. إن الاستمرار في تحصيل معرفة فكريّة بالكتاب المقدّس من دون إطاعته، قد يُمسي شَرَكًا عوضًا عن كونه بركة. لأننا إذا تعلّمنا بشكل متواصل ما ينبغي لنا فعله، من دون أن نفعله، ينتابنا شعور بالكآبة والخيبة وقساوة القلب؛ الذي يؤدّي إلى التعثُّر الكليّ.
لنتذكّر أن نُقرن قراءاتنا لكلمة الله مع الصّلاة. ممتحنين أنفسنا في ضوْئها، طالبين قوّة الله ونعمته أن تُعيننا لنعيش كما يحقّ لإنجيل المسيح. ولتكن صلاتنا كصلاة كاتب المزمور المئة والتاسع والثلاثين..”اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا”. إنّ مِجهر كلمة الله يَمتحن القلب ويكشف الأفكار ليقوّم كلّ ميل باطل ويهدي إلى الطّريق القويم.
لا يوجد أساس قويّ نبني عليه حياتنا كالكلمة الحيّة، وكلٌ عداها رمال. هذا ما أكّده الرّبّ في ختام موعظته الشّهيرة على الجبل. مشبّهًا الذي يسمع كلامه ويعمل به كالرّجل العاقل الذي بنى بيته على الصّخر، فكان بناءً ثابتًا قويًّا لا يسقط مهما صدمته رياح الحياة وأمطارها. وأما الذي يسمع الكلمة ولا يعمل بها فشبّهه برجل جاهل بنى بيته على الرّمل، وإذ هبّت عليه عواصف الحياة ورياحها، صدمت ذلك البيت فسقط، وكان سقوطه عظيمًا. يا له من حقّ عظيم نستطيع أن نعيشه في أصعب الظروف وأقساها، فالتعليم الذي يُخفق في تطبيق رسالة المسيح وحقّه عمليًا؛ ليس تعليمًا سليمًا. لذلك يجب أن يؤخذ الحقّ إلى سلوك يمجّد الله. فالحقّ والتّطبيق عنصران أساسيّان في الرّسالة التي نحملها للعالم المحتاج. ولكلّ من يرغب أن يكون تلميذًا حقيقيًّا للمسيح، إنه الأسلوب الوحيد لحياة النّصرة والغلبة التي نحتاج إليها في أيّامنا العصيبة هذه.