أنوار في العالم
Written by adminrajalalam on December 23, 2023
لم تكن مسيحيّتنا يومًا ديانة مظاهر خارجيّة. لكنّها تتجلّى بكلّ وضوح في حياة الفرد اليوميّة. وتُختبر بطرق عدّة.. بما نقوله كأتباع للمسيح وما نُحجم عن قوله.. بما نعمله وما نُمسك عن عمله. فمن عَزَم على اتبّاع المسيح بالإيمان؛ ستتبدّل مثله العليا، وتتغير أهدافه ومطامحه. ستتلاشى الأحقاد من حياته، وتزول الأنانية التي كانت بارزة في الكثير من نواحي الحياة. فتسمو شركته اليوميّة مع المسيح على جميع أفراح العالم ومباهجه؛ ممّا يجعله ينبذ الملذات الآثمة والصادرة عن محبّة الذّات، ويستسلم لمشيئة الله التي تؤدي به إلى السّعادة الحقيقيّة. وفي ذات الوقت لا يمتنع عن الحياة واقعيّة. فالمسيح لا يطلب ممن يتبعه نبذ الاهتمامات والمطامح الشرعيّة، بل يدعوه للقيام بالأعمال اليوميّة بكلّ اجتهاد، مخضعًا ذاته لإرشادات الروح القدس وقيادته في كلّ الأوقات وفي كلّ الظروف.
فعلى الرغم من أن المَثل الأعلى المسيحيّ لا يمنع المؤمن من الانخراط في شؤون هذه الحياة؛ إنما لا يجب أن تشغله بحيث لا يعود للربّ متّسع في حياته. فالناس في أيام نوح كانوا يأكلون ويشربون، يزوّجون ويتزوّجون، ولم يكن في ذلك خطأ. لكنهم أخطأوا بتوغّلهم المفرط في هذه الأمور، وجعلوها اهتمامهم الأوحد. وكان شاغلهم الوحيد هو الحصول على الملذّات والمكاسب الماديّة. وإذ انغمسوا في تلك المشاغل لم يعد لهم متّسع للتفكير في الله؛ مما أنزل غضب الله عليهم وأحاقت بهم دينونته. إن كلمة الله في الكتاب المقدس تحثّنا كمؤمنين بالمسيح أن ننظر إلى أمور هذه الحياة في ضوء العالم الروحيّ. ويحضّنا على أداء واجباتنا اليوميّة وأعمالنا بإتقان وإخلاص؛ معتمدين على قيادة الرب وإرشاده. ومخضعين أنفسنا لتتميم مشيئته الصالحة في حياتنا. فتكون حياتنا شهادة حيّة بين الناس عن عمل المسيح المخلّص. فالجاذبيّة الموجودة في حياة الذين يسكن المسيح فيهم؛ تتكلّم بصوت أعلى من الكلام المقنع وهكذا نثبت للعالم أن المسيح يحيا فينا ونحن فيه.
نحن نحيا في العالم، لكننا في ذات الوقت لا نتشبّه بما نراه في العالم من قيم. ولا نقتبس ما فيه من أساليب. نكون كالزنبقة البيضاء المحافظة على جمالها وهي في وسط الأوحال. نحن نحيا في العالم لكن المسيح يحيا فينا. ندخل معترك الحياة، لكننا ننتصر على تجاربها بمعونة الرّب. إن حياتنا مع المسيح ليست مجرد مقام جديد أو مركز جديد، لكنّها قوّة جديدة تسعى لتغيير العالم. وهذه الحياة الجديدة لاتتقوقع على نفسها لكنها تخرج إلى العالم لتنيره. أمَا علّمنا المسيح أن نحمل بشارة الخلاص بيد وكأس الماء البارد باليد الأخرى؟ فعلى المسيحيّ أن يُعنى أكثر من سواه بمشاكل المظالم الاجتماعيّة؛ وهو ما قامت به الكنيسة المسيحيّة على مرّ العصور، فساهمت مساهمة فعّالة في رفع المستوى الاجتماعي وتحسينه، وقامت بما عجزت عنه المنظّمات الأخرى. فقد ساهمت في إلغاء الرّق، ومنع تشغيل الأولاد، ورفع منزلة المرأة. وإلى غير ذلك من إنجازات عظيمة، ويرجع الفضل في تحقيق ذلك إلى التعاليم السامية التي نادى بها المسيح. واليوم نحتاج كأتباع للمسيح أن نأخذ مكانتنا في المجتمع، ونكون مناصرين للحقّ والعدل والشرف بجرأة وشجاعة تحقيقًا لتعاليم المسيح السامية.
لكي نكون أنوارًا في العالم علينا أن نُخلص الولاء لوطننا. والرّسول بولس يحثّ المؤمنين بالقول:” لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً”. إنّما لا يجب أن يمنعنا إخلاصنا ومحبّتنا لوطننا من انتقاد القوانين الظالمة دون محاباة لأحد. ولا نراوغ في دفع الضريبة. لأن من يراوغ في ذلك يسلب حكومته. ولن يرضى المسيحيّ الحقيقي أن يُلصق به هذا الوصف المشين. بل يسعى أن يعمل دائمًا لمصلحة الوطن وازدهاره. وإن كان بمقدوره أن يتبرّع بسخاء للمؤسّسات الخيريّة ويساهم بمجهوده في مساعدة المياتم والمستشفيات والسّجون والمؤسّسات الاجتماعيّة، تتميمًا لوصيّة الله، “تحب قريبك كنفسك”.
من ناحية أخرى على المؤمن المسيحيّ أن يقف موقفًا مسيحيًّا حازمًا تجاه القضايا الجنسيّة. فالكتاب المقدس لا يذكر بأن الجنس بحدّ ذاته خطيئة. وإنما إساءة استعمال الجنس هو الخطيئة. وتحويل العلاقات الجنسيّة التي قدّسها الله إلى عمل مشين دنيء رجس خال من الاحترام ليغدو فعلًا حيوانيًّا يحذّر الكتاب المقدّس منه بعبارات صريحة حازمة. فالمسيحيّ الحقيقيّ يشعر بالاستياء تجاه القضايا الجنسية كما تروّج لها المجلّات والكتب الخلاعيّة ومؤسّسات الإعلان ودور الملاهي، والانحطاط الذي آل إليه الناس في تشويه حرمة ما قدّسه الله وجعله أساسًا للحياة.
كذلك على المسيحيّ أن يتّخذ موقفًا كتابياًّ تجاه علاقاته المهنيّة. فالوصيّة الكتابيّة توضّح نوعيّة العلاقة المهنيّة التي يجب أن تكون بين الرئيس والمرؤوس:”وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمْ، فَاعْمَلُوا مِنَ الْقَلْبِ، كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاسِ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنَ الرَّبِّ سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ الْمِيرَاثِ، لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ الرَّبَّ الْمَسِيحَ. وَأَمَّا الظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ، وَلَيْسَ مُحَابَاةٌ”. كلّ عمل شريف هو جدير بالكرامة والاعتبار. لذلك مهما كان نوع العمل الذي يقوم به المسيحيّ يجب أن يؤديه على أحسن وجه وبكلّ إخلاص. وفي المقابل يجب على أرباب العمل المسيحيّين ان يعاملوا مستخدميهم بسخاء واحترام فيكونون بذلك قدوة في المجتمع.
أما بخصوص مشكلة العرق والتمييزالعنصريّ بين البشر، فإن المسيحيّ ينظر إليها كما ينظر إليها المسيح. مدركًا بأن الحلّ الجذريّ الوحيد لهذه المشكلة موجود عند أقدام الصليب؛ حيث يجمعنا المسيح بمحبته، من كلّ شعب وأمّة. لأنه في المسيح ليس يونانيّ ويهوديّ، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر ولا أنثى، ليس غنيّ ولا فقير، بل الكلّ واحد في المسيح.
ماذا عن المال؟ وكيف يجب أن يكون موقف المسيحيّ تجاه المال؟ لا شك أن للغنى مكانته وقوّته، إنما لا ينبغي أن يحتلّ الغرض الأساسيّ في حياة المسيحيّ. فكلّ إنسان منّا أتى إلى هذا العالم خالي اليدين، وواضح أننا سنغادره صفر اليدين. فالمال الذي بين أيدينا هو وكالة لنا من الله في فترة العمر القصير التي نقضيها على الأرض. والله هو الذي يملك كل شيء، فإن أغفلنا هذه الحقيقة وقعنا أسرى محبّة المال والطمع والبخل. كاتب الرسالة إلى العبرانيين يحث المؤمنين بالقول: “لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ:«لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ».أخيرًا لا ننسى إخوتنا في الإيمان، لا نُغفل التزاماتنا من نحوهم. كتب الرّسول يوحنا: “نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ، لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ. مَنْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ فِي الْمَوْتِ”. كذلك الرسول بولس الذي كتب:” اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ.. وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ.. مُشْتَرِكِينَ فِي احْتِيَاجَاتِ الْقِدِّيسِينَ، عَاكِفِين عَلَى إِضَافَةِ الْغُرَبَاءِ.. فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ”..هكذا نتوحّد مع جماعة المؤمنين تحت قيادة الرّوح القدس. وبحياة مكرّسة تُضيء على الآخرين نُخلص للذي وضع ثقته فينا ودعانا لنكون أنوارًا له في العالم.