المحبّة في أروع صورها
Written by adminrajalalam on December 23, 2023
في الآونة الأخيرة، أخذت الأصوات المناهضة للتّمييز بين البشر ترتفع عاليًا؛ لتعبّر عن غضبها ورفضها لكلّ أشكال التّمييز. فعلى الرُغم من أننا نعيش في زمن التّقدم والتّحضّر على كافّة الأصعدة، إلاّ أنّنا لا نستطيع أن ننكر بأن التّمييز في المعاملة على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القوميّ أو الإثنيّ ما زال موجودًا، حيث يتمّ التعامل مع الشّخص الذي يختلف بفوقيّة وبشكل صريح على النّطاق الفردي أو الجماعي.
تعالوا معنا لنتعرّف من خلال كلمة الله على الكيفيّة التي كان يقيّم فيها المسيحيّون الأوائل الإنسان. وليتنا نعود مجددًا إلى ذلك الزمن المجيد؛ زمن انطلاقة الكنيسة الأولى؛ تلك الجماعة الصغيرة التي أراد لها الله أن تكون الأنموذج الأمثل في عالم ساد فيه التّمييز بين البشر على أوسع نطاق. فالمؤمنون الأوائل كانوا يفتخرون بامتياز كونهم أولاد الله، ويعيشون كعائلة واحدة، ومعًا يشكّلون جسد المسيح الواحد على الأرض. وهو أفضل جدًا مما كان يعتمد عليه الناس ويفتخرون به . لذلك لم يكن داخل جماعة المؤمنين وجود للطبقيّة، وكان يَنظر كلّ واحد للآخر على أنه إنسان مخلوق على صورة الله، وقد مات المسيح من أجله؛ ممّا أضاف كرامة وقيمة جديدة على كلّ كائن بشريّ. فكانت العملية عمليّة مساواة على نطاق واسع، ولا يوجد بين المؤمنين موضع للتفرقة العنصريّة بسبب الاختلافات وما ينتج عنها من كبرياء كما هو سائد في العالم الخارجي.
ومن الأمثلة على ذلك ما نقرأه في الأصحاح 13: 1 من سفر أعمال الرسل، عن سمعان الذي يُدعى “نيجر” (أي أسود داكن اللون)، الذي احتل مكانة رئيسية ومنزلة مكرمة بين الأنبياء والمعلمين، الذي وضع يديه على بولس وبرنابا عندما اتجها للكرازة بالإنجيل إلى الأوروبيين البيض. أي أن رسامتهما تمّت على يد رجل أسود. هكذا كانت منزلة وقيمة هذا الإنسان الذي مات المسيح من أجله داخل الكنيسة الأولى. مما يؤكد بأن معاملة أي إنسان على أساس لون بشرته معناها أننا نُدخل إلى جسم المسيحيّة مادة غريبة، تتقيّح مع الزمن وتسمّم الجسم كلّه. والضمّادات العقلية لن تستطيع شفاء هذا التقيّح. أما الشفاء من داء التّمييز بين البشر يكون فقط بتوفير الفرص المتساوية للجميع بمعزل عن العرق والمولد واللون.
من جهة أخرى أنشأ قادة الكنيسة الأولى تكتّلًا اقتصاديًا، بمعنى أن المؤمنين في داخل الكنيسة اشتركوا معًا في جميع أمور الحياة، ممّا أدى إلى نظام تعاونيّ، ومجتمع يكون فيه الواحد للجميع والجميع للواحد. فتحوّلت قلوب أتباع المسيح الأولين إلى المحبّة المنظّمة. فعندما تشتعل القلوب بحبّ المسيح، تشتعل أيضًا بعضُها بحبِّ بعض. فلا يعود هناك مكانة للغني متفوقة على مكانة الفقير. وهذا الحبّ كان يُظهر نفسه في العطاء. وهكذا عبّر المؤمنون الأوائل عن حقيقة حياتهم المشتركة في المسيح بأنْ كان عندهم كلّ شيء مشتركًا. فبدلاً من التّمسك الأنانيّ بالممتلكات الشخصيّة، نظروا إلى ممتلكاتهم كأنها ملك لكلّ الجماعة. فعندما يكون هناك احتياج، يبيعون حقولهم أو بيوتهم ويأتون بأثمانها عند أقدام الرسل حتى يتمّ توزيعها على كلّ واحد كما يكون له احتياج دون أدنى تمييز. فكانت المحبّة هي صميم عيشهم، وعندما حصل جوع واحتياج في كنيسة أورشليم، قام التّلاميذ في كنيسة أنطاكية بحسب ما تيّسر لكلّ واحد منهم أن يُرسَل شيئًا إلى الأخوة السّاكنين في أورشليم. فالحياة بنظرهم كانت واحدة، ولم يقولوا ما يقوله الولد الشّبعان للولد الجائع “ابتهج وافرح”، لكنّهم بروح واحدة اشتركوا في احتياجات إخوتهم الذين ينتمون إلى جنسيّات وعرقيّات أخرى بكّل سرور. هذه هي المحبّة المسيحيّة في أروع صورها.
ومن الأمور التي قامت بها الكنيسة الأولى أنها سدّت الثغرة بين من يحملون الجنسيّة اليونانيّة واليهوديّة. فكان فيلبس الرسول يونانيًا موثوقًا به تمامًا كاليهود الذين آمنوا بالمسيح. وعندما كانت تظهر مشكلة عنصريّة كان عليه أن يحلّها بنفسه. فإنه كان للجميع لأنه كان للمسيح، لا سيما وأن المسيح هو مع الجميع وضد الشرّ فقط. وهكذا كان على المسيحي أن يكون كسيّده، ليس مجرّد مُحبٍّ للسّلام بل هو السّلام نفسه ويبعث الشّفاء في كلّ ما يلمسه.
هناك شكل آخر من أشكال التمييز الذي تعرض له الرسول يعقوب في رسالته، حيث حذّر من إعطاء الأغنياء داخل الكنيسة فرصة للتشامخ بسبب المحاباة في المعاملة بينهم وبين الفقراء. لأن التّشامخ، كما التّمييز الطبقي، لا ينسجمان أبدًا مع المسيحيّة الحقيقيّة. والانحياز إلى بعض الناس بإظهار الخنوع لهم بسبب ثيابهم الباهظة الثمن أو أية فروقات مزيّفة أخرى؛ يُسيء لاسم المسيح الذي دعي عليهم. كما أن تذلّل الإنسان أمام كبرياء أخيه في البشريّة؛ لا مكان له في محضر ربّ المجد. إن الازدراء بالآخرين من جراء الولادة أو العرق، أو الجنس، أو المستوى الاجتماعي، يشكِّل في الواقع إنكارًا للإيمان. ويعني أننا نحتقر إنسانًا قد منحه الله كرامة. لقد اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه. فالفقراء، إذًا، هم مختارو الله، وورثة الله، ومحبوبو الله. كما أن ربنا نفسه صرح بالقول: “والمساكين يُبشَّرون”. فأي ضرب من الجهل إذًا، أن يتمّ التعامل بازدراء مع أولئك الذين سيُرفعون، ذات يوم، في ملكوت ربنا ومخلصنا!
لا نحتاج اليوم إلى أناس يجمعون الأجناس البشريّة معًا بمقدار ما نحتاج إلى من يرتقون فوق الأجناس وينظرون إلى كلّ إنسان كإنسان؛ ويعاملونه على هذا الأساس. إن حاجتنا هي إلى أناس يَعوْن البشر وعيًا عميقًا، وفي عالم مهشّم ممزّق يبعثون الشّفاء ويُجرون خدمات المصالحة بين البشر.
“اللهمّ، يا من صنعت من دم واحد كلّ البشر في كلّ مكان. وجمعتنا ضمن أخوّة واحدة عند قدميك. ساعدنا أن نتخلّص من كلّ ما يفرّق بين إنسان وإنسان أيًا كان لونه أو جنسه. لأن الجميع متساوون أمام عينيك. وليكن المسيح هو الكلّ في الكلّ، والغرض الوحيد الذي ننظر إليه بالإيمان، متوقّعين مجيئه إلينا لكي يأخذنا إليه، لنكون جميعنا بكلّ اختلافاتنا معه إلى الأبد. آمين”.