تذوّق طعم الحرية
Written by adminrajalalam on December 23, 2023
نحتاج بين وقت وآخر أن نصغي إلى صوت الله، الذي يدعونا إلى اختبار الرّاحة والهدوء حتى نستردّ ذواتنا الحقيقيّة المتصالحة مع نفسها ومع الله ومع الآخرين، ولكي نستطيع أن نخرج من جديد إلى العالم وإلى الحياة اليوميّة بمنظور جديد مختلف ومفعم بالنجاح الحقيقيّ. إننا نحتاج إلى راحة حقيقيّة تجدّد حياتنا الداخليّة، وتنعش أرواحنا، وتمنح أجسادنا ونفوسنا سلامًا نحن في أمسّ الحاجة إليه. فكوكبنا يمتلئ بالعداوات والصراعات بين الناس، التي يعود سببها إلى أننا مخلوقات أنانيةّ أكثر مما نتخيّل.
فلو تأمّلنا ماضي حياتنا، نستطيع أن نرى كمًّا كبيرًا من مشاعر الألم المتراكمة على مرّ الأيام، والتي تحوّلت إلى مرارة في نفوسنا، وأشعرتنا بالحزن والغضب والفراغ، فسلبت منّا الرّاحة وسكينة النّفس. فكم من المرضى المجهدين بسبب ضغوط الأحقاد ومرارة النفس. وحكمة العالم فيما يتعلق بالغضب والألم تختلف عن الحكمة الإلهيّة التي نجدها في الكتاب المقدّس. ففي أي مجتمع تعيش فيه تجده يدعوك إلى المواجهة كي تدافع عن حقوقك. وإن كنت تشعر بالغضب، عليك أن تعبّر عنه وتخرجه لتدافع به عن نفسك وتستردّ حقّك. فالحلّ النهائيّ لمشكلة الألم هو أن تسعى لطلب العدالة أو التسوية، بينما الكتاب المقدّس يرى أن الصراعات الإنسانيّة أمر خطير، إنها مثل الطوفان، لأنه بمجرّد أن تبدأ من الصعب أن تحُدّها، وفي سفر الأمثال يخبرنا الحكيم سليمان أن من يحبّون الخصام يحبّون المعصية.
من واجبنا كمؤمنين أن نتبع السّلام مع الجميع، هذا ما تلزمنا به كلمة الله، لكننا كثيرًا ما نجد أنفسنا وقد انجرفنا إلى مستنقع الخلافات والصراعات على الرغم من كلّ الجهود التي نبذلها في الابتعاد عنها، بل أنها تستمرّ بيننا وبين الآخرين بمشاركة من الجانبين، ويساهم الكبرياء بدرجة كبيرة في تفاقم هذه المشكلات، وذلك يتفق مع كلمات الحكيم في سفر الأمثال 13: 10 “الخصام إنما يصير بالكبرياء”. فمن الحكمة بمكان ألاّ تستمر الخلافات لفترة طويلة، لأنّنا لو سمحنا لغضبنا أن يثور، فإنه ينمو في الحال ويُغذّي خيالنا وعواطفنا ليصبح الخلاف صراعا. لذلك يأمرنا الكتاب المقدّس أن نذهب في الحال إلى مصدر الصراع أو الألم، ونبذل أقصى ما لدينا من مجهود لحلّ ذلك الصراع حتى لا نسمح له أن ينمو.
سأل بطرس المسيح عن عدد المرّات التي ينبغي أن يغفر فيها لشخص ما أخطأ في حقّه،”هل إلى سبع مرات؟” لكنه اندهش من إجابة المسيح :”لا أقول لك إلى سبع مرّات بل إلى سبعين مرّة سبع مرات”..”فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كلّ واحد لأخيه زلاّته”. رسالة المسيح هذه تقودنا للتفكير في جبل الخطايا التي يريد الله أن يغفرها في حياتنا على حساب عمل المسيح الفدائي من أجلنا، وحين نمتنع عن الغفران لشخص ما أساء إلينا؛ إنما يكون ذلك استهانة منّا بالغفران الذي يقدّمه الله لنا. وفي الصّلاة الربّانيّة نجد جزءا منها مشروطًا! “فإن غفرتم للناس زلاّتهم، يغفر لكم أيضًا أبوكم السّماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاّتهم، لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاّتكم”. إذا الغفران في حياة المؤمنين بالمسيح ليس أمرًا اختياريًّا، لكنّه مرتبط فيهم بشكل شخصيّ..فلو كان هناك أيّ مرارة أو حقد باقيًا في داخل المؤمن، أو كان هناك عدم لطف أو غضب، فإن لم يغفر بكلّ وضوح وبالكامل ومن كلّ القلب تعدّيات الآخرين وإساءاتهم، فلن يغفر له الله.
من ناحية أخرى فإن غفراننا للآخرين يأتي علينا بالمنفعة. عندما تدخل الضغينة في قلوبنا، نعتقد أننا نعاقب من أخطأ في حقّنا، لكنّ الحقيقة أننا نحن من نتأذّى، ونصبح أسرى الغضب والهياج ولا نتذوّق طعم الحريّة بل نقيّد أنفسنا بقيود المرارة والضغينة. أما الغفران للآخرين فيجعلنا نتذوّق طعم الحريّة والانعتاق من كلّ هذه المشاعر السلبيّة المؤلمة..ولكن..”هل يمكننا نسيان إساءات الآخرين؟” يقول البعض أن النسيان أمر ممكن، وآخرون يشكّكون بقدرة الإنسان على نسيان الإساءات. ربما هناك شيئٌ من الحقّ في اعتراضات البعض؛ خاصة فيما يتعلق بالجراح الكبيرة في الحياة. فالشخص الذي تعرض للخيانة أو الاعتداء أو الإهانة أو التشهير وغير ذلك من الأخطاء الكبيرة في الحياة؛ فمن الطّبيعي أن يسترجع مثل هذه المواقف في ذهنه، وكلّنا يفعل ذلك..لكن استرجاع الحدث لا يُجدي سوى في استحضار الألم إلى أذهاننا، ولذلك علينا أن ندرّب أنفسنا على التوقّف عن “التذّكر النشط”. فإن الغفران الحقيقيّ يقوم على إبعاد الحدث من أذهاننا. وفي 1كو: 13 نجد واحدة من أجمل العبارات عن المحبّة..”المحبّة لا تتفاخر ولا تظنّ السّوء”. بمعنى أنها لا تحتفظ بسجلّ للأخطاء. فإن كنّا نريد أن نُظهر محبّتنا ومسامحتنا لمن أخطأ في حقّنا؛ علينا بالتوقّف عن إظهار أخطاء الماضي في محادثاتنا معه. إن كان بينك وبين أحدهم صراعٌ ترك جرحًا غائرًا في نفسك، سواء كنت أنت الشّخص المُسيء أم المُساء إليه. إجعل هدفك هو التّواصل مع الطرف الآخر بأسرع وقت، واسعَ لحلّ الخلاف أو الصراع الموجود بينكما، وحين تفعل ذلك سوف تتحرّر من قيود الضغينة والمرارة، ويحلّ سلام الله وسكينته في قلبك. ولا تنسى أن تصلّي طالبًا أن يقودك الله إلى الأسلوب الأمثل الذي ستتعامل به مع الموقف. فعندما ننمو في محبّتنا للربّ وفي علاقتنا معه؛ سوف يُغنينا الرّوح القدس السّاكن فينا، حتى نُصبح أقلّ تفكيرًا في أنفسنا، وأكثر امتنانًا. هذا هو التّغيير الذي سيجعل الغفران والنّسيان أمرًا مُمكنا. وهكذا نكون قد اختبرنا راحة حقيقيّة تجدّد حياتنا الدّاخلية وتمنح أجسادنا ونفوسنا سلامًا عجيبًا لا يعرفه الكثيرون.